الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{لا أقسم بهذا البلد} يجوز أن تكون {لا} زائدة، كما تقدم في أي يتقطع، ودخل حرف {لا} صلة؛ ومنه قوله تعالى {وأنت حل بهذا البلد} يعني في المستقبل؛ مثل قوله تعالى {ووالد وما ولد} قال مجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو صالح{ووالد} آدم: عليه السلام. {وما ولد} أي وما نسل من ولده. أقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض؛ لما فيهم من البيان والنطق والتدبير، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى. وقيل: هو إقسام بآدم والصالحين من ذريته، وأما غير الصالحين فكأنهم بهائم. وقيل: الوالد إبراهيم. وما ولد: ذريته؛ قال أبو عمران الجوني. ثم يحتمل أنه يريد جميع ذريته. ويحتمل أنه يريد المسلمين من ذريته. قال الفراء: وصلحت {ما} للناس؛ كقوله{ {لقد خلقنا الإنسان في كبد} إلى هنا انتهى القسم؛ وهذا جوابه. ولله أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها، كما تقدم. والإنسان هنا ابن آدم. {في كبد} أي في شدة وعناء من مكابدة الدنيا. وأصل الكبد الشدة. ومنه تكبد اللبن: غلظ وخثر وأشتد. ومنه الكبد؛ لأنه دم تغلظ واشتد. ويقال: كابدت هذا الأمر: قاسيت شدته: قال لبليد: قال ابن عباس والحسن{في كبد} أي في شدة ونصب. وعن ابن عباس أيضا: في شدة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه، وغير ذلك من أحواله. وروى عكرمة عنه قال: منتصبا في بطن أمه. والكبد: الاستواء والاستقامة. فهذا امتنان عليه في الخلقة. ولم يخلق الله جل ثناؤه دابة في بطن أمها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم، فإنه منتصب انتصابا؛ وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما. ابن كبسان: منتصبا رأسه في بطن أمه؛ فإذا أذن الله أن يخرج من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال الحسن: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وعنه أيضا: يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء؛ لأنه لا يخلو من أحدهما. ورواه ابن عمر. وقال يَمانٌ: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم؛ وهو مع ذلك أضعف الخلق. قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطا، وشد رباطا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام، الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدين، ووجع السن، وألم الأذن. ويكابد محنا في المال والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضى عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مساءلة الملك، وضغطة القبر وظلمته؛ ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار؛ قال الله تعالى{لقد خلقنا الإنسان في كبد}، فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد. ودل هذا على أن له خالقا دبره، وقضى عليه بهذه الأحوال؛ فليمتثل أمره. وقال ابن زيد: الإنسان هنا آدم. وقوله{في كبد} أي في وسط السماء. وقال الكلبي: إن هذا نزل في رجل من بني جمح؛ كان يقال ل أبو الأشدين، وكان يأخذ الأديم العكاظي فيجعله تحت قدميه، فيقول: من أزالني عنه فله كذا. فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه؛ وكان من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد}البلد: 5 يعني: لقوته. وروي عن ابن عباس. {في كبد} أي شديدا، يعني شديد الخلق؛ وكان من أشد رجال قريش. وكذلك ركانة ابن هشام بن عبدالمطلب، وكان مثلا في البأس والشدة. وقيل{في كبد} أي جريء القلب، غليظ الكبد، مع ضعف خلقته، ومهانة مادته. ابن عطاء: في ظلمة وجهل. الترمذي: مضيعا ما يعنيه، مشتغلا بما لا يعنيه. {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد، يقول أهلكت مالا لبدا، أيحسب أن لم يره أحد، ألم نجعل له عينين، ولسانا وشفتين} قوله تعالى{أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} أي أيظن ابن آدم أن لن يعاقبه الله عز وجل{يقول أهلكت} أي أنفقت. {مالا لبدا} أي كثيرا مجتمعا. {أيحسب} أي أيظن. {أن لم يره} أي أن لم يعاينه {أحد} بل علم الله عز وجل ذلك منه، فكان كاذبا في قوله: أهلكت ولم يكن أنفقه. وروى أبو هريرة قال: يوقف العبد، فيقال ماذا عملت في المال الذي رزقتك؟ فيقول: أنفقته وزكيته. فيقال: كأنك إنما فعلت ذلك ليقال سخي، فقد قيل ذلك. ثم يؤمر به إلى النار. وعن سعيد عن قتادة: إنك مسؤول عن مالك من أين جمعت؟ وكيف أنفقت؟ وعن ابن عباس قال: كان أبو الأشدين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا وهو في ذلك كاذب. و {وهديناه النجدين} يعني الطريقين: طريق الخير وطريق الشر. أي بيناهما له بما أرسلناه من الرسل. والنجد. الطريق في ارتفاع. وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. و {فلا اقتحم العقبة} أي فهلا أنفق ماله الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن والاقتحام: الرمي بالنفس في شيء من غير روية؛ يقال منه: قحم في الأمر قحوما: أي رمى بنفسه فيه من غير روية. وقحم الفرس فارسه. تقحيما على وجهه: إذا رماه. وتقحيم النفس في الشيء: إدخالها فيه من غير روية. والقُحمة بالضم المهلكة، والسنة الشديدة. يقال: أصابت الأعراب القُحمة: إذا أصابهم قحط، فدخلوا الريف. والقُحم: صعاب الطريق. وقال الفراء والزجاج: وذكر {لا} مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد {لا} مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع، حتى يعيدوها في كلام آخر؛ كقوله تعالى أي فلم يبدها ولم يتقدم. وكذا قال المبرد وأبو علي{لا}: بمعنى لم. وذكره البخاري عن مجاهد. أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا، فلا يحتاج إلى التكرير. ثم فسر العقبة وركوبها فقال {فك رقبة} وكذا وكذا؛ فبين وجوها من القرب المالية. وقال ابن زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام الاستفهام الذي معناه الإنكار؛ تقديره: أفلا اقتحم العقبة؛ أو هلا اقتحم العقبة. يقول: هلا أنفق ماله في فك الرقاب، وإطعام السغْبَان، ليجاوز به العقبة، فيكون خيرا له من إنفاقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قيل: اقتحام العقبة ها هنا ضرب مثل، أي هل تحمل عظام الأمور فغي إنفاق ماله في طاعة ربه، والإيمان به. وهذا إنما يليق بقول من حمل {فلا اقتحم العقبة} على الدعاء؛ أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في كذا وكذا. وقيل: شبه عظم الذنوب وثقلها وشدتها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحا، كان مثله كمثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله. قال ابن عمر: هذه العقبة جبل في جهنم. وعن أبي رجاء قال: بلغنا أن العقبة مصعدها سبعة آلاف سنة، ومهبطها سبعة آلاف سنة. وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر، فاقتحموها بطاعة الله. وقال مجاهد والضحاك والكلبي: هي الصراط يضرب على جهنم كحد السيف، مسيرة ثلاثة آلاف سنة، سهلا وصعودا وهبوطا. واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء. وقيل: اقتحامه عليه قدر ما يصلي صلاة المكتوبة. وروي عن أبي الدرداء أنه قال: إن وراءنا عقبة، أنجى الناس منها أخفهم حملا. وقيل: النار نفسها هي العقبة. فروى أبو رجاء عن الحسن قال: بلغنا أنه ما من مسلم يعتق رقبة إلا كانت فداءه من النار. وعن عبدالله بن عمر قال: من أعتق رقبة أعتق الله عز وجل بكل عضو منها عضوا منه. "و إبليس والدنيا ونفسي والهوى من أين أرجو بينهن فكاكا
يا رب ساعدني بعفو إنني أصبحت لا أرجو لهن سواكا {وما أدراك ما العقبة} فيه حذف، أي وما أدراك ما اقتحام العقبة. وهذا تعظيم لالتزام أمر الدين؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ليعلمه اقتحام العقبة. قال القشيري: وحمل العقبة على عقبه جهنم بعيد؛ إذ أحد في الدنيا لم يقتحم عقبة جهنم؛ إلا أن يحمل على أن المراد فهلا صير نفسه بحيث يمكنه اقتحام عقبة جهنم غدا. واختار البخاري قول مجاهد: إنه لم يقتحم العقبة في الدنيا. قال ابن العربي: وإنما اختار ذلك لأجل أنه قال بعد ذلك في الآية الثانية{وما أدراك ما العقبة}؟ ثم قال في الآية الثالثة{فك رقبة}، وفي الآية الرابعة {أو إطعام في يوم ذي مسغبة}، ثم قال في الآية الخامسة{يتيما ذا مقربة}، ثم قال في الآية السادسة{أو مسكينا ذا متربة} ؛ فهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا. المعنى: فلم يأت في الدنيا بما يسهل عليه سلوك العقبة في الآخرة. وقال سفيان ابن عيينة: كل شيء قال فيه {وما أدراك}؟ فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه {وما يدريك}؟ فإنه لم يخبر به. {فك رقبة} قوله تعالى{فك رقبة} فكها: خلاصها من الأسر. وقيل: من الرق. وفي الحديث: [وفك الرقبة أن تعين في ثمنها]. من حديث البراء، وقد تقدم في سورة التوبة . والفك: هو حل القيد؛ والرق قيد. وسمي المرقوق رقبة؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته. وسمي عنقها فكا كفك الأسير من الأسر. قال حسان: و قوله تعالى{رقبة} قال أصبغ: الرقبة الكافرة ذات الثمن أفضل في العتق من الرقبة المؤمنة القليلة الثمن؛ ل العتق والصدقة من أفضل الأعمال. وعن أبي حنيفة: أن العتق أفضل من الصدقة. وعند صاحبيه الصدقة أفضل. والآية أدل على قول أبي حنيفة؛ لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذي قرابة أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة} قوله تعالى{أو إطعام في يوم ذي مسغبة} أي مجاعة. والسغب: الجوع. والساغب الجائع. وقرأ الحسن {أو إطعام في يوم ذا مسغبة} بالألف في {ذا} - وأنشد أبو عبيدة: وإطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل. وقال النخعي في قوله تعالى{أو إطعام في يوم ذي مسغبة} قال: في يوم عزيز فيه الطعام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قوله تعالى{أو مسكينا ذا متربة} أي لا شيء له، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر، ليس له مأوى إلا التراب. قال ابن عباس: هو المطروح على الطريق، الذي لا بيت له. مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة: إنه ذو العيال. عكرمة: المديون. أبو سنان: ذو الزمانة. ابن جبير: الذي ليس له أحد. وروى عكرمة عن ابن عباس: ذو المتربة البعيد التربة؛ يعني الغريب البعيد عن وطنه. وقال أبو حامد الخارزنجي: المتربة هنا: من التريب؛ وهي شدة الحال. يقال ترب: إذا افتقر. قال الهذلي: وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي{فكَ} بفتح الكاف، على الفعل الماضي. {رقبة} نصبا لكونها مفعولا {أو أَطعم} بفتح الهمزة نصب الميم، من غير ألف، على الفعل الماضي أيضا؛ لقوله{ثم كان من الذين آمنوا} فهذا أشكل بـ {فك وأطعم}. وقرأ الباقون{فك} رفعا، على أنه مصدر فككت. {رقبة} خفض بالإضافة. {أو إطعام} بكسر الهمزة وألف ورفع الميم وتنوينها على المصدر أيضا. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنه تفسير لقوله تعالى{وما أدراك ما العقبة}؟ ثم أخبره فقال{فك رقبة أو إطعام}. المعنى: اقتحام العقبة: فك رقبة أو إطعام. ومن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى؛ أي ولا فك رقبة، ولا أطعم في يوم ذا مسغبة؛ فكيف يجاوز العقبة. وقرأ الحسن وأبو رجاء{ذا مسغبة} بالنصب على أنه مفعول {إطعام} أي يطعمون ذا مسغبة و{يتيما} بدل منه. الباقون {ذي مسغبة} فهو صفة لـ {يوم}. ويجوز أن يكون قراءة النصب صفة لموضع الجار والمجرور لأن قوله{في يوم} ظرف منصوب الموضع، فيكون وصفا له على المعنى دون اللفظ. {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة، والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة، عليهم نار مؤصدة} قوله تعالى{ثم كان من الذين آمنوا} يعني: أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة، أو أطعم في يوم ذا مسغبة، حتى يكون من الذين آمنوا؛ أي صدقوا، فإن شرط قبول الطاعات الإيمان بالله. فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع، بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالإيمان، قال الله تعالى في المنافقين قوله تعالى{أولئك أصحاب الميمنة} أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم؛ قال محمد بن كعب القرظي وغيره. وقال يحيى بن سلام: لأنهم ميامين على أنفسهم. ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن. وقيل: لأن منزلتهم عن اليمين؛ قاله ميمون بن مهران. {والذين كفروا بآياتنا} أي كفروا بالقرآن. {هم أصحاب المشأمة} أي يأخذون كتبهم بشمائلهم؛ قال محمد بن كعب. يحيى بن سلام: لأنهم مشائيم على أنفسهم. ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر. ميمون: لأن منزلتهم عن اليسار. قلت: ويجمع هذه الأقوال أن يقال: إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة، وأصحاب المشأمة أصحاب النار؛ قال الله تعالى وقيل: مبهمة، لا يدري ما داخلها. وأهل اللغة يقولون: أوصدت الباب وأصدته؛ أي أغلقته. فمن قال أوصدت، فالاسم الوصاد، ومن قال آصدته، فالاسم الإصاد. وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة ويعقوب والشيزري عن الكسائي {موصدة} بالهمز هنا، وفي {الهمزة}. الباقون بلا همز. وهما لغتان. وعن أبي بكر بن عياش قال: لنا إمام يهمز {مؤصدة} فأشتهي أن أسد أذني إذا سمعته
|